وهنا أقنع الباكستانيون أصدقاءهم بأن لديهم حلاً يتمثل في طلاب العلم الأفغان الذين يدرسون في
باكستان ، ففيهم من الصفات ما يؤهلهم لضبط الأمن وإيجاد وضع مستقر، فالناس كلهم يحبونهم، وأيديهم نظيفة من دماء الشعب، وقد نجح بعضهم بالفعل في توطيد الأمن في ولايته - ومنهم
الملا محمد عمر! - وبادرت الولايات الأخرى في الكتابة إليه للدخول في طاعته والإفادة من هيبته بالقضاء على قطاع الطرق، ثم إنهم في تصنيف الأجهزة الاستخباراتية العوراء آخر من يمكن أن يؤسس حركة سياسية منظمة، فضلاً عن أن يستقل بحكم دولة.
وهكذا أيدت
أمريكا و
باكستان ودول
الخليج -التي كان منها مستثمرون أيضاً- قيام حكومة
طالبان التي اكتسحت البلاد بسمعتها الحسنة وآثارها الحميدة وليس بقوتها أو بمعونة غيرها ضرورة، إلا أن الأمر الذي لم يتنبه لـه الباكستانيون ومن وراءهم هو أن
أفغانستان لم تنتهِ معجزاتها، ولم تنفد مفاجآتها، وهكذا فوجئوا بأن
طالبان ليسوا مجموعة دراويش يمكن باسمهم استغلال الدين وإقامة دولة ترفع شعارات جوفاء وهي في الواقع مطية لمطامعهم.
صحيح أن الطلبة لم يتعاطوا السياسة بحكم إقامتهم في بلاد الغربة وانحصار تعليمهم في العلوم الشرعية والتراث، ولكن صدق تدينهم ووجودهم في بيئة مفتوحة سياسياً، وارتباطهم القبلي وليس الحزبي، والتأييد الشعبي الواسع لهم -كل ذلك جعلهم يستقلون برأيهم ويقيمون حكومتهم وفق المنهج الذي يرون لا وفق ما يمليه عليهم غيرهم، وهكذا كان.
فليس صحيحاً ما يردد في الإعلام الغربي من أن
طالبان صنيعة
أمريكا وأن السحر انقلب على الساحر، ولكن الصحيح أن الأمريكيين يريدون إسلاماً أمريكياً، وهؤلاء أقاموه إسلاماً صادقاً حسب عقيدتهم ومذهبهم، ومن هنا افترق الطرفان، والشيء المتيقن هو أن نجاح
طالبان كان أخلاقياً قبل كل شيء، وأنهم أعادوا للمسلمين شيئاً من الأمل الذي أحبطته الأحزاب، وأنهم بعثوا في الأمة فكرة قيام دولة العقيدة التي تراعي نصوص الكتاب والسنة والفقهاء وليس الأساليب العصرية الملتوية والقانون الدولي المطاط.
وفيما يتعلق بالإرهاب؛ يجمع المنصفون على أن حكومة
طالبان هي التي قضت عليه، ووطدت الأمن في أرجاء البلاد، كما قضت على كثير من مصادر الفساد ومنها زراعة المخدرات.
وكانت الأكاذيب الإعلامية الغربية عن اضطهاد المرأة والاتجار بالمخدرات من التفاهة لدى المسلمين بحيث أعطت نتائج عكسية؛ فضلاً عن منع التنصير وتحطيم الأصنام.
بل إن العلماء الذين زاروا
أفغانستان للمباحثة بشأن تحطيم الأصنام صرحوا بأن ما رأوا عكس ما سمعوا، وأنهم كانوا ضحايا التضليل الإعلامي الغربي، ونبهوا المسلمين إلى ذلك.
وفيما يخص المشكلة الأخرى التي صارت أم المشاكل! وهي (إيواء الإرهابيين) ليس في إمكان أي ناظر بالعدل إلا أن يشيد بموقف
طالبان -الإسلامي الذي هو في نفس الوقت الموقف الإنساني والموقف الصحيح سياسياً- من بقايا المجاهدين العرب.
فأي ذنب لـ
طالبان في إيجاد إرهابيين مزعومين، وهي إنما جاءت متأخرة عن نشأتهم وعن قدومهم للبلاد، وكانت معزولة عن منهجهم وعن فكرهم، جاءت وقد نبذتهم حكومة الأحزاب وتنكرت لهم وجحدت جميلهم فأحسنت إليهم وإلى العالم الإسلامي والعالم كله من جهتين :-
1- قيامها بواجب الوفاء للجميل لمن ناصروا الأحزاب بأنفسهم وأموالهم حتى إذا تمكنوا تركوهم بين فكي كماشة رهيبة، أحدهما : حكوماتهم التي تنتظر عودتهم لتذيقهم ألوان النكال وتـزج بهم في غياهب السجون مع إخوانهم السابقين، والأخرى : الفقر القاتل والتشرد في مخيمات اللاجئين شمال
باكستان، حيث أمضى كثير منهم السنين تلو السنين يعاني الحر والقر ولا يأكل إلا من القمامة! وأي قمامة؟ إنها ليست قمامة أثرياء
الخليج، بل قمامة مهاجري الأفغان وفقراء
باكستان.
أما حفظها لحق الجوار - إلا بسبب شرعي - فهو مما تشكر عليه، مع أن للضرورة أحكامها، وقد ذكّرنا حالها بموقف الملك
عبد العزيز من تسليم الزعيم الثوري
رشيد عالي الكيلاني لـ
بريطانيا حين التجأ إليه، وكانت علاقته
ببريطانيا قد أخذت في الفتور بسبب علاقته الناشئة مع
أمريكا فرفض تسليمه محتجاً بأخلاق العرب وشيمهم ولم ينكر عليه الأمريكان ذلك.
2- ضبطها لمن بقي منهم في
أفغانستان : فبعد أن كانت الأمور فوضى أيام الأحزاب، وكان يمكن أن تتحول البلاد فعلاً إلى مفرخة للغلاة من كل جنس، جاءت
طالبان لتفتح لهم المساجد والحلقات ليتعلموا ويعلِّموا، وتفاهمت مع الحكومات ذات العلاقة بشأنهم بأن تعهدت ألاّ تسمح بعمل أي شيء ضدها، وأبلغتهم أنها اشترطت ذلك عليهم، وفي حالة ثبوت مخالفتهم لهذه الشروط فهي ستحاكمهم أو تسلمهم لحكوماتهم!
وقد سمعنا وقرأنا جميعاً لرئيس تنظيم القاعدة التصريح تلو التصريح بأنه لا يستهدف أبداً
بلاد الجزيرة بشيء، وأنه ليس ضد حكومة بلاده، ولا يريد تعكير الأمن فيها، وهذه التصريحات وأمثالها انتشرت في كل مكان ونقلتها بعض الصحف الغربية وكان لها دور في تهدئة الشباب في
اليمن ودول
الخليج، بعد أن كانت المرشَّح الأول للعمليات التي قد يخطط لها هؤلاء، وكل هذا بفضل
طالبان التي قوبلت بالظلم والاتهام بأنها ترعى الإرهاب وتؤوي أهله!!
هل نقول هذا دفاعاً عن
طالبان؟
وماذا عسى أن يرجو المدافع عن
طالبان لاسيما في هذه الأيام؟!
إننا نقولـه دفاعاً عن الحق والحقيقة، وليعلم العالم مقدار الغطرسة الأمريكية والحقد الأمريكي على كل ما يمت للإسلام الحقيقي بصلة، وليعلم الجور والحيف الذي يضطر المعتدل من المسلمين؛ بل الغافل أن يتحول إلى متطرف في الحكم عليها، ومجاهر بالعداوة لها، ولتعلم الحكومات العربية أنه لا مخرج لها من كل أزمة إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج الخلفاء الراشدين، وفتح المجال للدعوة وتربية الشباب تربية إيمانية متوازنة، وليعلم الدعاة في هذه البلاد وغيرها أن الصبر على هؤلاء الشباب واحتواءهم بالمعاملة الحسنة والتفهم لمواقفهم هو الحل الصحيح والمقدمة الحقيقية لتهذيبهم وتربيتهم، وليس التشنيع بهم على المنابر وترديد ما يقوله أعداء الله عنهم.